فصل: بصيرة في ذكر نوح عليه السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويسقط عنده ابن العَمّ والعمة وابن الخال والخالة؛ لأنهم ليسوا بمَحْرمين.
وقال الشافعيّ: القرابة كلّ ذي رحم مَحرَم وغيره.
فلم يسقط عنده ابن العمّ ولا غيره.
وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولد البنات.
وقوله: لقرابتي وعقبي كقوله: لولدي وولد ولدي.
يدخل في ذلك ولد البنين ومن يرجع إلى عَصَبة الأب وصُلْبه، ولا يدخل في ذلك ولد البنات.
وقد تقدّم نحو هذا عن الشافعيّ في آل عمران.
والحجة لهما قوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] فلم يَعقِل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولدَ الصُّلْب وولد الابن خاصّةً.
وقال تعالى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} [الأنفال: 41] فأعطى عليه السلام القرابة منهم من أعمامه دون بني أخواله.
فكذلك ولد البنات لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه في أب.
قال ابن القصّار: وحجة من أدخل البنات في الأقارب قولُه عليه السلام للحسن بن عليّ: «إن ابني هذا سيّد» ولا نعلم أحدًا يمتنع أن يقول في ولد البنات إنهم ولد لأبي أمّهم.
والمعنى يقتضي ذلك؛ لأن الولد مشتق من التولُّد وهم متولدون عن أبي أمّهم لا محالة؛ والتولّد من جهة الأمّ كالتولّد من جهة الأب.
وقد دلّ القرآن على ذلك، قال الله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله: {مِّنَ الصالحين} فجعل عيسى من ذرّيته وهو ابن ابنته.
الثالثة: قد تقدّم في النساء بيان ما لا ينصرف من هذه الأسماء.
ولم ينصرف داود لأنه اسم أعجمِيّ، ولمّا كان على فاعول لا يحسُن فيه الألف واللام لم ينصرف.
وإلياس أعجمِيّ.
قال الضحاك: كان إلياس من ولد إسماعيل.
وذكر القُتَبي قال: كان من سِبط يُوشع بن نون.
وقرأ الأعرج والحسن وقَتادة {والياس} بوصل الألف.
وقرأ أهل الحَرَمين وأبو عمرو وعاصم {والْيَسَع} بلام مخففة.
وقرأ الكوفيون إلا عاصمًا {واللَّيْسع}.
وكذا قرأ الكسائِيّ، وردّ قراءة من قرأ {والْيَسع} قال: لأنه لا يقال اليَفْعَل مثل الْيَحْيَى.
قال النحاس: وهذا الردّ لا يلزم، والعرب تقول: الْيَعْمَل والْيحْمَد، ولو نكّرت يحيى لقلت اليحيى.
وردّ أبو حاتم على من قرأ {اللَّيْسع} وقال: لا يوجد لَيْسع.
وقال النحاس: وهذا الرّد لا يلزم، فقد جاء في كلام العرب حَيْدَر وزَيْنَب، والحَقُّ في هذا أنه اسم أعجمِيّ، والعُجْمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعًا والعرب تغيّرها كثيرًا، فلا يُنكر أن يأتي الاسم بلغتين.
قال مَكِّيّ: من قرأ بلامين فأصل الاسم لَيْسع، ثم دخلت الألف واللام للتعريف.
ولو كان أصله يسع ما دخلته الألف واللام؛ إذ لا يدخلان على يزيد ويشكر: اسمين لرجلين؛ لأنهما معرفتان علَمان.
فأما ليسع نكرة فتدخله الألف واللام للتعريف، والقراءة بلام واحدة أحبّ إليّ؛ لأن أكثر القراء عليه.
وقال المَهْدَوِيّ: من قرأ {اليسع} بلام واحدة فالاسم يسع، ودخلت الألف واللام زائدتين، كزيادتهما في نحو الخمسة عشر، وفي نحو قوله:
وَجَدْنا اليَزِيدَ بنَ الوليد مباركًا ** شديدًا بأعباء الخلافة كاهِلُه

وقد زادوها في الفعل المضارع نحو قوله:
فيستخرج اليَرْبُوع من نافِقَائه ** ومن بيته بالشِّيخة الْيَتَقَصّعُ

يريد الذي يتقصّع.
قال القُشَيْريّ: قرئ بتخفيف اللام والتشديد.
والمعنى واحد في أنه اسم لنبيّ معروف؛ مثل إسماعيل وإبراهيم، ولكن خرج عما عليه الأسماء الأعجمية بإدخال الألف واللام.
وتوهّم قوم أن اليسع هو إلياس، وليس كذلك؛ لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذِّكر.
وقال وهب: اليسع هو صاحب إلياس، وكانا قبل زكرياء ويحيى وعيسى.
وقيل: إلياس هو إدريس وهذا غير صحيح لأن إدريس جدّ نوح وإلياس من ذرّيته.
وقيل: إلياس هو الخضر.
وقيل: لا، بل الْيَسع هو الخضر.
{ولوطًا} اسم أعجميّ انصرف لخفّته.
وسيأتي اشتقاقه في الأعراف. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قرأ الجمهور {اليَسَعَ} بلام واحدة وفتح الياء بعدها.
وقرأ الأخوان: اللَّيْسَع بلام مشددة وياء ساكنة بعدها، فقراءة الجمهور فيها تأويلان:
أحدهما: أنه منقُولٌ من فعل مضارع، والأصل: يَوْسَع كيَوْعِد، فَوقَعَتِ الواو بين ياء وكسرة تقديرية؛ لأن الفَتْحَةَ جيء بها لأجْلِ حرف الحَلْقِ، فحُذِفَتْ لحذفها في يضع ويدع ويهب وبابه، ثم سمي به مُجَرَّدًا عن ضمير، وزيدت فيه الألف واللام على حَدِّ زيادتها في قوله: [الطويل]
رأيْتُ الوَلِيدَ بْنَ اليَزِيدِ مُبَارَكًا ** شَدِيدًا بِأعْبَاءِ الخِلافَةِ كَاهِلُهُ

وكقوله: [الرجز]
بَاعَدَ أمَّ العَمْرِ مِنْ أسِيرِهَا ** حُرَّاسُ أبْوابٍ عَلَى قُصُورِهَا

وقيل الألف واللام فيه للتعريف كأنّه قدَّر تنكيره.
والثاني: أنه اسم أعْجَمِيُّ لا اشتقاق له؛ لأن اليسع يقال: إنه يوشع بن نون فَتَى موسى، فالألف واللام فيه زائدتان، أو معرفتان كما تقدم.
وهل أل لازمة له على تقدير زيادتها؟
فقال الفَارِسيُّ: إنها لازِمَةٌ شُذُوذًا، كلزومها في الآن.
وقال مالك: ما قَارَنتِ الأدَاةُ نَقْلَهُ كالنَّضْرِ والنُّعْمضانِ، أو ارتِجَالَهُ كاليسع والسموءل، فإنَّ الأغْلَبَ ثُبُوتُ أل فيه وقد تحذف.
وأما قراءة الأخوين، فأصله لَيْسَع، كضَيْغَم وصَيْرَف وهو اسم أعْجَمِيُّ، ودخول الألف واللام فيه على الوَجْهَيْنِ المتقدمين.
واختار أبو عبيدة قراءة التخفيف، فقال: سمعنا هذا الشيء في جميع الأحاديث: اليسع ولم يُسَمِّهِ أحدٌ منهم الَّيْسع، وهذا حُجَّةَ فيه؛ لأنه روى اللفظ بأحد لُغَتَيْه، وإنما آثَرَ هذه اللفظة لِخِفَّتِهَا لا لعدم صِحَّةِ الأخرى.
وقال الفراء في قراءة التشديد: هي أشبهُ بأسماء العجمِ.
قوله: {يونس} هو يونس بن متى، وقد تقم أن فيه ثلاث لغات [النساء: 163] وكذلك في سين {يُوسف} وقوله: {ولوطًا} وهو لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم.
قوله: {وكلاَّ فَضَّلْنَا} كقوله: {كُلاَّ هَدَيْنَا}. اهـ.

.فصل نفيس في التعريف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الذين ذكرتهم الآيات السابقة:

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

.بصيرة في ذكر نوح عليه السلام:

ونُوحٌ اسمٌ أَعجمىٌّ، والمشهور صُرْفُه لسُكُونِ وسطِه، وقيل: يجوزُ صرْفُه وتَرْكُ صرْفِه، قال الله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}.
وقيل: عَرَبِىٌّ واشتقاقُه من النَّوْح، ناحَ يَنُوحُ نَوْحًا ونُوَاحًا ونِيَاحًا ونِياحَةً، فقيل له نُوحٌ لأَنَّه أَقْبَلَ على نَفْسه باللَّوم وناح عليها، واختلفوا في سبب ذلك، فقِيل: سببه أَنَّه عابَ على صورةِ كَلْبٍ وقَبَّحه، فأوحى إِليه هل تَعِيبُ الصُّورَةَ أَو المُصَوِّر؟ فعرف أَنَّه قد أَخْطأَ، واشتغل بلَوْمِ نفسه، وقيل: لأَنَّه دَعا على قومِه بقوله: {لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}، وقيل: بل لأَنَّه كان يَنُوح على قومه ويتأَسَّفُ كلونهم غَرِقُوا بلا تَوْبَةٍ ورُجوع إِلى الله، وقيل غير ذلك.
وفى الحديث: «إِذا أَرادَ اللهُ بعَبْد خَيْرًا أَقامَ في قَلْبِه نائحَة».
قال:
سِرْ في بلاد الله سَيّاحا ** وكُنْ على نفسك نوّاحَا

وامْشِ بنُورِ في أَرْضِه ** كَفَى بنُور الله مِصْباحَا

وفي الحديث: «النِّياحَةُ من عَمَلِ الجاهليّة» وفيه: «مَنْ نِيحَ عليه يُعَذَّب بما نِيحَ عَلَيْه» يعنى إِذا أَوصَى به.
قال:
وفَتًى كأَنَّ جَبِينَه قَمرُ الضُّحَى ** قامت عليه نَوائِحٌ ورَواجسُ

غرسَ الفَسيل مؤمِّلا لِثماره ** فما الفَسِيلُ ومات قَبْلُ الغارِسُ

وقد ذكر اللهُ تعالىَ نُوحًا في القرآن العظيم وسمّاه بثلاثين اسمًا، فسمّاه: مُرْسَلًا بقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}، ورَسُولًا: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ونَذِيرًا ومُبِينا: {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}، ومُسَلَّمًا: {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}، ومُبارَكًا: {وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ}، ومُحْسِنًا: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، ومُؤْمِنًا: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}، ومُنَجًّى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}، ومُنادِى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ}، ومُسْتَجابَ الدَّعْوَة: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}، وداعِيًا، {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا}، ومُنْذِرًا: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ}، ومَنْصورًا: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}، وصانِعَ الفُلْكِ: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}، وحامِدًا: {فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَجَّانَا}، ومَحْمُولًا: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}، وبَشَرًا: {مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}، ورَجُلًا: {عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ}، وخائفًا: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وعَبْدًا: {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا}، وشَكُورًا: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، ومَغْلوبًا: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}، وناصِحًا: {وَأَنصَحُ لَكُمْ}، ومُجادِلًا: {يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} ولابِثًا: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا}، وهابطًا: {يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا}، ومُعْلِنًا ومُسِرًّا: {أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}، وقَوْمُهُ سَمَّوْه مَجْنونًا.
وذكره الله تعالى باسمه في ستة وثلاثين موضعا من القرآن: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ}، {كُلًا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا}، {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ}، {خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ}، {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ}، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ}، {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ}، {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}، {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي}، {يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ}، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ}، {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}، {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ}، {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}، {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَاسِقِينَ}، {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ}، {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ}، {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي}، {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}.
قال الثعلبىُّ: هو نوح بن لامكْ أَو لَمكْ بن متوشَلْح بن أَخْنوخَ بن يرْد بن مهْلائيل بن أَنوشِ بن قَيْنان بن شِيث بن آدم.
أَرسله الله إِلى ولَدِ قابيل ومن تابعُهم من ولَد شيث.
قال ابن عبّاسٍ وكان بطْنان ولدِ آدم أَحدُهما يسْكن السّهل والآخر يسكن الجَبَلَ، وكان رِجال الجبل صِباحا وفى النّساء دَمامَة، وكانت نِساء السَّهْل صِباحا وفى الرجال دَمامةٌ، فكثرت الفاحشة من أَوْلاد قابِيلَ، وكانوا قد كَثروا في طولِ الأَزْمانِ وأَكْثَرُوا الفساد، فأَرْسلَ الله تعالى إِليهم نوحا وهو ابن خَمْسِينَ سَنَة، فلبث فيهم أَلْفَ سَنَة إِلاَّ خَمْسِين عاما يدعوهم إِلى الله تعالَى كما أَخْبر الله تعالى به في كتابه العزيز، وَيُحذِّرهم ويُخوِّفهم فلم يَنْزَجِرُوا ولهذا قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا}، وقال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}، فلمّا طال دُعاؤه لهم وإِيذاؤهم له، وتَماديهم في غَيّهم سأَلَ اللهَ تعالَى فأَوْحَى إِليه {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} ولمّا أَخبره أَنَّه لم يَبْقَ في الأَصلابِ ولا الأَرْحامِ مؤمنٌ دَعا عليهم فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}، فأَمره الله تعالَى بإِيجادِ السفينة فقال: يا رَبِّ وأَيْنَ الخَشَب؟ فقال: اغْرِس الشَجَر.
فغرَسَ السّاجَ، وأَتى على ذلك أَربعون سنة، وكَفَّ عن الدعاء عليهم، وأَعْقَم الله تعالى أَرْحامَ نسائِهم فلم يُولَدْ لهم وَلَد.
فلمّا أَدرك الشَجَر أَمر الله تعالى بقَطْعِه وتَجْفِيفه وصُنْعِهِ الفُلْكَ، وأَعمله كيف يصنعه وجعل بابَهُ في جنْبِه.
وكان طول السَّفِينة ثمانين ذِراعا وعرْضها خَمْسِين، وسَمْكها إِلى السّماء ثلاثين ذراعا، والذِراع من اليد إِلى المَنْكِب.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أَنّ طولَها كان ستمائة ذِراعٍ وستُّون ذِراعا، وعرْضها ثلاثمائةٍ وثلاثين ذِراعا، وسَمْكها ثلاثةً وثلاثين ذراعا.
وأَمر الله تعالى أَن يَحْمِل فيها من كلّ جِنْسٍ من الحيوان زَوْجَيْن اثنين، وحَشَرها الله تعالى إِليه من البَرِّ والبَحْر.
قال مجاهد وغيره: كان التَّنّور الذي ابتدأَ فَوَران الماء منه في الكوفَةِ، ومنها رَكِب نوحٌ السّفينة.
وقال مُقاتلٌ: هو بالشام في قَرْيةٍ يقال لها عَيْن الوركة قريبٌ من بَعْلَبَكّ.
وعن ابن عَبّاسٍ أَنَّه بالهِنْد.
قالوا: وأَوّل ما حُمِلَ في السّفينة الذَرَّة وآخِرُه الحِمارُ، وجعل السِّباع والدوّابَّ في الطَّبَقة السُّفْلَى، والوُحوشَ في الطبقة الثانية، والذَرَّ والآدميين في الطَّبقَة العُلْيا.
قيل: كان الآدَمِيّون في السّفينة سَبْعَةً: نوحٌ وبنو نُوحٍ: سَامٌ، وحامٌ، ويافِثٌ، وأَزْواج بَنِيه.
وقيل ثمانية، وقيل عَشَرة، وقيل اثنان وسَبْعُون، وقيل: ثَمانون من الرِجّال والنّساء، حكاه ابن عبّاس.
وعن ابن عبّاس أَيضا أَنّ الماء ارْتَفَع حين صارت السّفِينَة أَعْلَى من أَطْوَل جَبَل في الأَرضِ خمسةَ عَشَر ذِراعا.
قالوا: وطافت السّفينة بأَهْلها الأَرض كلَّها في ستَّة أَشْهُر، ثمّ استقرّت على الجُودىِّ- جَبَلٌ بالمَوْصل- وكان رُكوبُهم السَّفينة لعَشْرٍ خَلَوْنَ من رَجَب، ونَزَلوا منها يوم عاشوراء من المُحَرّم.
وبَنَى هو من مَعَه في السفينة، حين نَزَلوا، قرى في أَرض الجَزِيرة.
ولَمّا حَضَرَتْه الوفاة وَصّى إِلى ابْنِه، وكان سام قد وُلِدَ قبلَ الطُوفان بثمانٍ وتسعين سنة، ويقال إِنَّه كان بِكْرَهُ.
وكان نوحٌ أَطولَ الأَنبياء عُمْرا حتى قال بعضهم كان عُمْرُه أَلفا وثلثمائة سنة.
ولمّا نزل الوَحْىُ عليه كان عمره ثلثَمائة وخمسين سنة، فلبث أَلف سَنَةٍ إِلا خمسين عاما يَدْعُوهم.
وقالوا ما أَسْلَمَ من الشياطين إِلاَّ شيطانان، شيطان نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلَّم.
وشَيْطان نوح عليه السّلام.
وقال إِبْلِيسُ لنوحٍ عليه السّلام: خذْ مِنىِّ خَمْسا، فقال لا أُصَدِّقك، فأُوحِىَ إِليه أَنْ صَدِّقْه في الخَمْس.
قال: قلْ.
قال: إِيّاك والكِبْرَ فإِنِّى وقعت فيما وقعت بالكِبْرِ.
وإِيّاكَ والحَسَدَ، فإِنَّ قابِيلَ قَتَلَ هابِيلَ أَخاه بالحَسَد.
وإِيّاكَ والطَّمَعَ، فإِنّ آدم أَوْرثَه ما أَورثَه بالطَّمع، وإِيَّاكَ والحِرْص فإِنّ حوَّاء وقعت فيما وقعت بالحِرْص، وإِيَّاكَ وطولَ الأَمل فإِنَّهما وقَعا فيما وقعا بطولِ الأَمل.
مُر النَّاس بالمعْرُوفِ واغْدُ صَبُوحَا ** وحافِظْ عليهم رَوْحةً وصَبُوحا

عِظْ بعضهم وارْفُق وأَعْرِضْ ولا تَخَفْ ** بصَبْرٍ ومِمَّنْ تَسْتَمِيل جُموحا

أَلَمْ تَرَ نُوحًا أَلفَ عامٍ دعاهُمُ ** تأوّب أَبْوابًا لهم وسُطوحا

يُلاطِفهُم قَوْلًا ويَدْعُوهْم إِلى ** مَواعِيدِ صِدْقٍ فالْتَقَوه كُلُوحا

يهدّونه صرْحا ويرْمُونَه حصىً ** وعِنْد الدُّعا زادوا أَذًى وجُموحا

فدمَّرهُم طُوفان أَمْر عُقُوبةً ** مِنَ اللهِ للإِنْذار أَرْسلَ نوحا